اكتشف باحثون في مجال النشوء والتطوّر من متحف الطبيعة على اسم شتاينهارت، أنّ الثدييات بدأت تنشط في ساعات النهار، فقط بعد انقراض الديناصورات.تدعم الدراسة فرضيّة عمرها 80 عامًا، مفادها أنّ الثدييات القديمة كانت قادرة على البقاء على قيد الحياة من خلال النشاط ليلًا وتجنّب اللقاء مع الديناصورات خلال النهار.
كيف نجت الثدييات في عصر هيمنت فيه الديناصورات على العالم؟
كانت الثدييات في وقت مبكّر صغيرة ودونيّة على كلّ الأصعدة مقارنة بالديناصورات، ولكنها تمكّنت من البقاء على قيد الحياة جنبًا إلى جنب معها، لمدّة 150 مليون سنة! كيف فعلت ذلك؟ هذا هو أحد الأسئلة التي شغلت الباحثين لسنوات عديدة.
في مطلع ثلاثينيّات القرن العشرين، اقترح العلماء فرضيّة رائعة تقول: كيّفت الثدييات المبكّرة نفسها للنشاط الليليّ، في حين كانت الديناصورات تنشط في النهار، بصفتها زواحف تحتاج إلى دفء أشعّة الشمس للعيش. وبعبارة أخرى، لتجنّب الافتراس والتنافس مع الديناصورات الكبيرة، اضطرّت الثدييات إلى أن تكون نشطة في ساعات الليل. سمح ذلك للثدييات بأن تعيش في المناطق الجغرافيّة التي تعيش فيها الديناصورات، ومع ذلك، في بيئة مختلفة تمامًا – البيئة الليلية.
استندت هذه الفرضيّة، التي يطلق عليها اسم “عنق الزجاجة الليليّ”، إلى حقيقة أنّ معظم الثدييات، في عالمنا أيضًا، تنشط ليلًا، وخاصة إلى أنّ معظم أنواع الثدييات النشطة في النهار، هي ذات خصائص أكثر ملاءمة للرؤية الليليّة. في الواقع، القرود التي ينتمي إليها البشر، هي الثدييات الوحيدة التي تكيّفت حاسّة البصر عندها للرؤية في ضوء النهار. وهذا هو السبب أيضًا في أنّنا قادرون على ملاحظة تفاصيل من مسافة كبيرة ورؤية الألوان بصورة أفضل من الثدييات الأخرى.
تنتمي الديناصورات إلى فئة الزواحف، مثل: التماسيح والسحالي والثعابين. ظهرت الديناصورات الأولى في بداية العصر الوسيط قبل حوالي 250 مليون سنة، وسرعان ما طوّرت مجموعة واسعة من الأشكال وأحجام الجسم، واستولت على منافذ بيئيّة مختلفة.
إلى جانب الديناصورات، كان هناك العديد من المجموعات الفقاريّة الأخرى، بما في ذلك مجموعة صغيرة من الحيوانات عديمة الحراشف أو الدروع، ولكنّها ذات فراء و “دم حار” (سنعود لاحقًا إلى أهمّيّة هذه النقطة). كانت هذه هي الأسلاف المبكّرة للثدييات.
كيف تمكّنت هذه الكائنات الحيّة من البقاء على قيد الحياة لأكثر من 150 مليون سنة مع الديناصورات، مع أنّها كانت صغيرة الحجم، من دون وسائل وقائيّة لائقة، ومع أنّها كانت دونيّة في كلّ ما يتعلّق بالمنافسة على مصادر الغذاء والمأوى؟ تفترض نظريّة “عنق الزجاجة الليليّ” أنّ الديناصورات، مثل الزواحف الأخرى، كانت تحتاج إلى أشعة الشمس لتسخين أجسامها إلى درجة حرارة تسمح بالنشاط الأمثل، لذلك كانت تنشط في النهار. الثدييات، في المقابل، تكيّفت مع النشاط الليليّ عندما انخفضت درجة الحرارة المحيطة، وذلك بفضل الفراء، ممّا ساعد في العزل الحراريّ، وخاصّة بسبب قدرتها على الحفاظ على درجة حرارة الجسم ثابتة.
لاختبار فرضية “عنق الزجاجة الليليّ”، طلب الباحثان البروفيسور تمار ديان وروعي مؤور، من متحف الطبيعة على اسم شتاينهارت، بالتعاون مع باحثين من UCL (University College London)، الفحص متى ظهر لأوّل مرّة النشاط النهاريّ لدى الثدييات، وهل من الممكن ربط هذا التغيّر باختفاء الديناصورات. غالبًا ما تكون الأحافير الدليل المادّيّ المحسوس الوحيد على ميزات الحيوانات المنقرضة، ولكن في هذه الدراسة لم يعتمد الباحثون على الاطلاق على أدلّة من الأحافير. لماذا؟ لسببين. الأوّل هو أن أحافير الثدييات من العصر الوسيط وعصر الديناصورات، نادرة للغاية وعادةً لم تُحفظ بطريقة تسمح لنا بالتوصّل إلى استنتاجات عن زمن نشاط الكائنات الحيّة. السبب الثاني والأهمّ هو حقيقة أنّه في معظم الثدييات التي تنشط في النهار، تقتصر التعديلات التي تطوّرت فيها لصالح النشاط النهاريّ، على الأنسجة الرخوة – العين ومناطق من الدماغ – التي لا تُحفظ في الأحافير.
لمعرفة المزيد عن الثدييات القديمة، جمع الباحثون معلومات عن أنماط النشاط لأكثر من 2،400 جنس من الثدييات الحديثة (التي تنشط في الليل والتي تنشط في النهار والتي تنشط في قسم من النهار والليل) والتقارب التطوّريّ بينها. بواسطة الخوارزميّات الإحصائيّة، تمّ حساب نمط النشاط الأكثر احتمالًا لكلّ من أسلاف تلك الأنواع من الثدييات، بما في ذلك سلف جميع الثدييات التي تعيش اليوم.
أظهرت الحسابات أنّ السلف البدائيّ للثدييات كان، كما هو متوقّع، ينشط في الليل، وكذلك الثدييات المبكّرة التي تلته. لكنّ الاكتشاف الحقيقيّ هو ما حدث بعد ذلك: لقد تبيّن أنّ النشاط النهاريّ الجزئيّ لدى الثدييات ظهر بعد حوالي 200،000 سنة فقط بعد سقوط النيزك الذي أدى إلى انقراض الديناصورات.
يقول الباحث روعي مؤور:
“هذه النتيجة الدقيقة مذهلة”. “لقد فحصنا ذلك في ثلاث طرق إحصائيّة مختلفة، وبقيت النتائج كما هي، وهذا قد يبدو مثل وقت طويل جدًّا بالمصطلحات البشريّة، ولكن بمصطلحات التطوّر هو بين عشيّة وضحاها! قد تكون هذه الفترة الزمنيّة أقصر، لأنه وفقًا لبعض التقديرات تراجع الديناصورات نتيجة لسقوط النيزك استمرّ آلاف السنين. يبدو أنّ هناك علاقة وثيقة بين اختفاء الديناصورات وظهور النشاط النهاريّ في الثدييات. في البداية ظهرت الثدييات التي كانت تنشط ليلًا ونهارًا، وفيما بعد تطوّرت الثدييات التي تنشط في النهار فقط، وأبرزها سلف القرود”.
إنّ إمكانيّة النشاط خلال ساعات النهار هي، بلا شكّ، أحد الأسباب في ازدهار الثدييات بعد انتهاء هيمنة الديناصورات، وفي التطوّر السريع لمجموعة واسعة من الثدييات منذ ذلك الحين وحتّى اليوم.
هذا البحث هو جزء من رسالة الدكتوراه التي قدّمها روعي مؤور في كلّيّة علم الحيوان، بإرشاد البروفيسورة تمار ديّان من كلّيّة علم الحيوان ومتحف الطبيعة على اسم شتاينهارت، وأجري التعاون مع علماء من -University College London (UCL). ونُشر في تشرين الثاني 2017 في المجلّة العلميّة Nature Ecology and Evolution.