شطيرة جبنة أو رقائق الخبز؟ الخبز المحمّص (التوست) أو كعكة الكرز؟ ليس مهمًّا ما أخترتم أن تأكلوا، على الأرجح أنّكم تأكلون القمح بشكلٍ أو بآخرَ.
القمح هو الأساس الغذائيّ لمعظم البشريّة. إذ يشكّل المكوّن الرئيس في غذاء 40% من سكّان العالَم، ويوفّر 20% من السعرات الحراريّة التي يستهلكها البشر. ينتج في كلّ عام في أرجاء العالَم 620 مليون طنًّا من القمح.
صنف القمح الأوّل الذي دجّنه الإنسان هو قمح من نوع إيمر. بدأ الإنسان في جمع وتناول قمح إيمر منذ أكثر من 19,000 سنة، ولكنّه لم يكن قد قام بزراعته بنفسه بعد. اكتشفت أقدم نتائج لجمع القمح في موقع أوهالو II على شاطئ بحيرة طبريّا، والتي اكتشفت فيه أيضًا شهادات على معالجة القمح لتحضير الطحين والطهي. فقط بعد مضيّ 9,000 سنة بدأ الإنسان بزراعة القمح بنفسه.
تدجين القمح
يختلف القمح الذي نعرفه اليوم عن القمح البريّ الذي نما في الطبيعة، وقد خضع لعمليّة تدجين طويلة، بدأت قبل 10,000 سنة تقريبًا. خلال هذه العمليّة انتقى الإنسان القمح ذا الصفات الملائمة لاحتياجاته، وطوّر أصنافًا من القمح جرت ملاءمتها للزراعة وحتّى إنّها تعتمد على الإنسان في وجودها.
أدّى تدجين القمح إلى ثورة هائلة في تاريخ البشريّة. وكان هذا مؤشّرًا على بداية الثورة الزراعيّة، وبفضله انتقل الإنسان من أسلوب حياة الصيد- الجمع والالتقاط، الذي ينتقل من مكان إلى آخر إثر غذائه، إلى أسلوب حياة الاستقرار. بفضل تدجين القمح تطوّرت الزراعة وتطوّرت الثقافة المادّيّة، الاجتماعيّة والروحيّة التي نعرفها في الوقت الحاليّ.
استمرّت عمليّة تدجين القمح على مدار آلاف السنين وحدثت في مواقع كثيرة. بدأت هذه العمليّة بزراعة القمح البريّ، من خلال انتقاء مختلف الصفات المرغوب فيها، وتواصلت بتطوير أصناف من القمح المدجّن وتحسينها وصولًا إلى الأصناف المدجّنة المعروفة لدينا حاليًّا. في الواقع استمرّت عمليّة التدجين طوال الوقت، وحتّى في الوقت الراهن يستخدمون طرقًا حديثة لمواصلة تحسين القمح لاحتياجات الإنسان.
القمح الأكثر انتشارًا في الوقت الحالي هو قمح الخبز، وهو يشكّل 95% من استهلاك القمح العالميّ. القمح القاسي أو الصلب (دورم) يشكّل 5% تقريبًا من استهلاك القمح في حين تشكّل الأصناف الأخرى أقلّ من 1%.
علامات التدجين
خلال عمليّة التدجين يجري اختيار صفات كثيرة، مثل، حجم الحبوب، ارتفاع النبتة، بنية السنبلة، غطاء الحبّة وغير ذلك. مجموعة الصفات المتنوّعة التي تميّز بين القمح البريّ والقمح المدجّن تدعى ” أعراض التدجين” وهي تشمل الصفات التالية:
- * السنبلة المتفكّكة– في أصناف القمح البريّ، تكسر السنبلة الناضجة بسهولة وهكذا تنتشر البذور.
في القمح المدجّن فُقد جهاز التوزيع هذا: تبقى السنبلة كاملة حتّى بعد نضجها، مما يجعل من السهل على الإنسان جمع البذور. يعتبر هذا التغيّير من أهمّ الأمور في تدجين القمح، وبغية التوصّل إليه تطلّب ذلك أكثر من ألف سنة.
- * الحبّة المغطّاة– حبّة القمح البرّيّ مغطّاة بغلاف (قشّة)، تحميها من الجفاف والحرّ، إلّا أنّها أيضًا تجعل من الصعب تنظيف الحبّة. أما في القمح المدجّن، فإنّ الحبوب تُفصل بسهولة من القش. كان هذا التغيّير أحد التغييرات الهامّة والمتأخّرة في عمليّة التدجين.
- * حجم الحبّة– تتيح الحبوب الكبيرة زيادة كميّة المحصول في مساحة الحقل المماثلة. اختيرت الحبوب الكبيرة منذ بداية عمليّة التدجين، بعد خمسمائة عام وحتّى ألف عام على بداية العمليّة.
- * موعد الإزهار- يزهر القمح البريّ لفترة زمنيّة قصيرة نسبيًّا، وموعد إزهاره يتعلّق بطول النهار. إطالة مدّة الإزهار وإلغاء الاعتماد على طول النهار أتاحت توسيع انتشار القمح- من منطقة الهلال الخصيب (العراق حاليًّا) وحتّى النرويج وروسيا في الشمال والأرجنتين في الجنوب.
العلاقة الإسرائيليّة
في العام 1906 اكتشف عالم النبات الإسرائيليّ أهرون أهرونسون القمح البرّيّ في روش بينا. لم يكن أهرونسون أوّل من اكتشف القمح البرّيّ. وهو لم يكتشفه صدفة- بل بحث عنه بشكل خاصّ. لماذا؟ درس أهرونسون القمح المدجّن واعتقد أنّ اكتشاف أصل القمح من شأنه أن يمنح الباحثين المعرفة التي تسمح لهم بتحسين أصناف القمح وزيادة تحمّلها للأمراض والجفاف. تتجلّى عظمة أهرونسون في كونه أثبت العلاقة الوراثيّة المباشرة بين القمح البرّيّ والقمح المدجّن.