إذا ذهبتم للغوص في الحيّد المرجانيّ العظيم في أستراليا، فمن المحتمل أن يصادفكم مشهد محزن بشكل خاصّ- ابيضاض مكثّف للشعاب المرجانيّة. لماذا يحدث هذا؟ لماذا ينبغي أن يقلقنا هذا؟ كيف يرتبط ذلك بالشعاب المرجانيّة في إيلات؟ وما الذي يمكن أن يقدّمه العلم؟
ساعدوا في تحضير التقرير:
د. توم شلزنغر، من المعهد التكنولوجيّ في فلوريدا، الولايات المتّحدة الأمريكيّة، الذي يجري تعيّينه كأحد أعضاء الطاقم البارزين في مدرسة علم الحيوان وفي متحف الطبيعة.
د. عمري برونشتاين، من مدرسة علم الحيوان ومتحف الطبيعة على اسم شتاينهارت وأمين مجموعة شوكيّات الجلد في المتحف.
المرجان الحجريّ هو كائنات حيّة لها هيكل عظميّ كلسيّ صلب، التي تكوّن هياكل ملوّنة ومذهلة، تُسمّى الشعاب المرجانيّة. مصادر الغذاء والطاقة الرئيسيّة لهذه الشعاب المرجانيّة هي طحالب السوطيّات التي تعيش داخل الأنسجة المرجانيّة. عندما تتعرّض الشعاب المرجانيّة لضغوط (إجهاد)، تنهار الشراكة القديمة بينها. تنبعث طحالب السوطيّات، التي يأتي منها معظم لون المرجان، من الأنسجة المرجانيّة، ومن ثمّ يُمكن رؤية الهيكل العظميّ الجيريّ الأبيض من خلال النسيج المرجانيّ الرقيق والشفّاف. هذا هو السبب في أنّ هذه الظاهرة تسمّى “ابيضاض الشعاب المرجانيّة”. إذا كان ابيضاض الشعاب المرجانيّة مسألة خطيرة، أو أنّها تستغرق فترة طويلة، فقد تكون النتيجة موتًا جماعيًا للعديد من الشعاب المرجانيّة. يمكن أن ينتج ابيضاض الشعاب المرجانيّة بشكل طبيعيّ عن ضغوط مختلفة، أو من مجموعة متنوّعة من الاضّطرابات التي تنشأ من أفعال الإنسان، ولكن أحداث الابيضاض وحالات الموت الهائلة، التي تتزايد في العقود الأخيرة، تنبع أساسًا من الاحتباس الحراريّ.
كيف يؤثّر المناخ في الشعاب المرجانيّة
كلّ كائن حيّ لديه نطاق درجة حرارة مثاليّ يلائمه، ويمكن أن يؤدّي الانحراف عن هذا النطاق إلى الإجهاد. في الواقع، فإنّ الشعاب المرجانيّة قريبة جدًّا بالفعل من الحدّ الأقصى لنطاق درجة الحرارة الأمثل بالنسبة لها اليوم، لذا فإنّ ارتفاع طفيف على درجة الحرارة، درجة واحدة أو درجتين كافٍ للتّسبب في تحوّل مئات الكيلو مترات من الشعاب المرجانيّة إلى الابيضاض وحتّى الموت. تسبّبت أزمة المناخ الراهنة بالفعل في ارتفاع متوسّط درجة الحرارة بنحو 0.7 درجة مئويّة لمياه المحيطات منذ عام 1960. هذا ربّما قد لا يبدو أمرًا دراماتيكيًّا، ولكن بالنسبة للشّعاب المرجانيّة يعدّ تغييرًا كبيرًا.
أحداث الابيضاض التي نشهدها في أستراليا، هي بالفعل الحدث الرابع من نوعه في السنوات الستّ الأخيرة! يتعلق الأمر بفترات من أسابيع إلى أشهر، التي تصبح خلالها مئات الكيلو مترات من الشعاب المرجانيّة والكثير من الأنواع من المرجان بيضاء، وقد يموت بعضها لاحقًا. يُمكن أن تكون النتيجة مدمّرة. يمكن أن يؤدّي موت هذا العدد الكبير من الشعاب المرجانيّة إلى زعزعة المنظومة البيئيّة بأكملها والتسبّب في انهيارها، بالإضافة إلى اختفاء العديد من الكائنات الحيّة التي تعتمد عليها. على العكس من الموت الطبيعيّ، الذي عندما يحدث بوتيرة متوازنة، يكون هناك مكان شاغر لكائنات جديدة كجزء من عمليّة مستمرّة، ففي حالات الابيضاض يتعلّق الأمر بموت سريع واسع النطاق، الذي يشمل أيضًا، الكثير من الشعاب المرجانيّة الموجودة منذ عشرات وحتّى مئات السنين، التي لا يمكن استبدالها بسرعة.
الشعاب المرجانيّة ليست مجرّد مناظر جذب سياحيّ فريدة من نوعها. بل تلعب دورًا هامًّا في حماية خطّ الساحل من الاضمحلال من خلال الأمواج والعواصف (ومن هنا جاء اسم الشعاب المرجانيّة الشرقية في أستراليا: “الحيّد المرجانيّ العظيم“). عندما تتعرّض الشعاب المرجانيّة لأضرار جسيمة، فإنّ معدّل نموّ الشعاب المرجانيّة الجديدة ليس بالسرعة الكافية لحماية الخطّ الساحليّ من ارتفاع مستويات سطح البحر والعواصف الاستوائيّة، وهما عمليّتان تتسارعان وتتفاقمان بسبب ارتفاع درجة حرارة البحر وذوبان الأنهار الجليديّة.
هل الحلّ موجود لدينا في خليج إيلات؟
أدّى التاريخ الجيولوجيّ والمناخيّ الفريد للبحر الأحمر إلى أن تكون الشعاب المرجانيّة في شمال البحر الأحمر مقاومة لدرجات الحرارة المرتفعة مقارنة بالشعاب المرجانيّة في أماكنَ أخرى من العالَم. الدكتور توم شلزنغر الذي يقوم حاليًّا بأبحاث ما بعد الدكتوراه في فلوريدا، يحلّل الاتّجاهات العالميّة لابيضاض الشعاب المرجانيّة في العقود الأخيرة. على غرار نتائج الدراسات السابقة، تُظهر دراسة شلزنغر أنّه في شمال البحر الأحمر، وخاصّة في خليج إيلات والعقبة، لم تُلاحظ أيّ أحداث ابيضاض كبيرة حتّى الآن. لكن هذا لا يعني أنّه لا توجد مخاطر تواجه الشعاب المرجانيّة. تعتبر وتيرة ارتفاع درجة حرارة مياه خليج إيلات أسرع من متوسّط ارتفاع درجة حرارة جميع المحيطات (ترتفع درجة حرارة مياه الخليج بمعدّل حوالي 0.3 درجة مئويّة خلال العقد!)، بالإضافة إلى مخاطر أخرى، مثل مصادر التلوّث المختلفة.
كيف يمكن أن يساعد العلم في الحفاظ على الشعاب المرجانيّة؟
تحاول دراسات مختلفة حول العالَم الاستفادة من مقاومة الشعاب المرجانيّة مثل تلك التي تعيش في خليج إيلات. إحدى الطرق، تسمّى “النشوء والارتقاء المدعوم” (Assisted Evolution، تحاول إنتاج انتقاء موجّه بشكل اصطناعيّ عن طريق تحديد مستعمرات مرجانيّة مقاومة لدرجة الحرارة العالية وإنتاج نسل أكثر مقاومة. بطريقة أخرى، “مُعينات حيويّة للشعاب المرجانيّة”، يحاولون إصابة الشعاب المرجانيّة بطحالب السوطيّات وببعض البكتيريا، التي تحّسن من مقاومة الشعاب المرجانيّة لدرجات الحرارة المرتفعة. على الرغم من أنّ هذه الدراسات تعزّز فهمنا لبيولوجيا الشعاب المرجانيّة والطرق الممكنة للحفاظ عليها، إلا أنّ هناك جدلاً حولها بين المجتمع العلميّ بسبب القضايا الأخلاقيّة والبيئيّة، المتعلّقة بالتدخّل البشريّ في العمليّات الطبيعيّة والتطوريّة.
أحد الاتّجاهات الذي يحظى بزخم بحثيّ في العقد الماضي، هو البحث الذي يتناول الشعاب المرجانيّة العميقة. نشأت من هذه الأبحاث فكرة أنّ الشعاب المرجانيّة العميقة يمكن أن تكون بمثابة ملجأً للشعاب المرجانيّة من تغيّرات المناخ وأحداث الابيضاض، وذلك لأنّ درجات الحرارة في الأعماق منخفضة أكثر. ولكن كما أنّ الشعاب المرجانيّة، والكائنات الحيّة بشكلٍ عامّ، تتطلّب نطاقًا دقيقًا لدرجة الحرارة، هناك أيضًا تفضيلات مختلفة لظروف الإضاءة والظروف البيئيّة الأخرى. هذا يعني أنّ الأنواع المختلفة التي تعيش في الأعماق ليست بالضرورة نفس الأنواع التي تعيش في البيئة الضحلة، والتي قد تواجه الآن خطرًا أكبر للابيضاض. وبالتالي، فليس من الواضح إلى أيّ مدى يمكن أن تسهم الشعاب المرجانيّة التي تعيش في الأعماق في تجديد الشعاب الضحلة المتضرّرة.
في مختبر الدكتور عمري برونشتاين في متحف الطبيعة، يدرسون، من بين أمور أخرى، نظريّة العمق كملاذ للشعاب المرجانيّة والأنواع الأخرى من خلال تطوير أدوات وراثيّة جزيئيّة لفحص الترابطات بين المجموعات العميقة والضحلة. بعبارة أخرى، يقوم الباحثون بفحص ما إذا كانت هناك علاقة وراثيّة بين المجموعات التي تعيش في المياه الضحلة والكائنات من نفس النوع التي تعيش في الشعاب المرجانيّة العميقة. في الوقت نفسه، يتناول البحث في مختبر عمري تطوير أدوات للرصد الوراثيّ لدورات التكاثر في البحر. تتكاثر الشعاب المرجانيّة، مثل الكائنات البحريّة الأخرى، عن طريق إطلاق الخلايا الجنسيّة بشكل متزامن في الماء، حيث تقوم الحيوانات المنويّة بتلقيح البويضات. يحاول الباحثون في هذه الدراسة الإجابة عن أسئلة، مثل: كم من الوقت تعيش الخلايا الجنسيّة للشعاب المرجانيّة في البيئة البحريّة؟ ما المسافة التي يمكنها قطعها؟ هل يستقرّ الخدج (الذين تطوّروا من الخلايا الملقّحة) بشكل عشوائيّ؟ الإجابات عن هذه الأسئلة وغيرها ذات أهمّيّة كبيرة لفهم بيئة الشعاب المرجانيّة ولتخطيط الخطوات اللازمة للحفاظ على هذه الكنوز الطبيعيّة الفريدة.
على الرغم من محاولات خلق مقاومة اصطناعيّة للشعاب المرجانيّة لدرجات الحرارة المرتفعة أو لفهم دور الشعاب المرجانيّة العميقة كمكان للجوء، فإنّ الطريقة الرئيسيّة لاستمرار وجود هذا النظام البيئيّ الرائع، الشعاب المرجانيّة، هي تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراريّ. يمكن أن يؤدّي هذا الانخفاض إلى إبطاء الاحتباس الحراريّ العالميّ، وربما إيقافه. نحن موجودون في مرحلة زمنيّة لا يزال هناك الكثير ممّا يمكن انقاذه. الشعاب المرجانيّة التي نجت حتّى الآن، مثل تلك الموجودة في خليج إيلات، تمنح الأمل وسببًا ممتازًا لمواصلة الكفاح حتّى ننجح في إبطاء أو إيقاف أزمة المناخ.